سوريا الجديدة- تحديات الاستقرار والنهوض بين الطموحات والأطماع

المؤلف: أحمد الحيلة09.23.2025
سوريا الجديدة- تحديات الاستقرار والنهوض بين الطموحات والأطماع

مع إشاعة أجواء الأمن والاستقرار الداخلي، والبدء في تنفيذ الترتيبات الأمنية والاقتصادية، وتفعيل الاتصالات السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي، استأنفت الحياة مسيرتها في ربوع سوريا الجديدة بشكل تدريجي. شهدت دمشق استقبال وفود رفيعة المستوى من الدول العربية والإسلامية والأوروبية، بالإضافة إلى وفد أمريكي، وذلك في سياق التأكيد على الأهمية القصوى لاستقرار سوريا ووحدة أراضيها. تجسد هذا الدعم الدولي في قرار واشنطن بتعليق جزئي للعقوبات المفروضة على سوريا لمدة ستة أشهر، كما اتجه الاتحاد الأوروبي نحو تخفيف العقوبات، مع الإبقاء على مراقبة دقيقة لمسار الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع.

على الرغم من الإيجابية التي تتسم بها المواقف الإقليمية والدولية، والفرحة العارمة التي تغمر الشعب السوري بنيله حريته، وتطلعه إلى مستقبل أفضل، إلا أن هذه العوامل وحدها لا تكفي لترسيخ الثقة المطلقة بالمستقبل. فلكل دولة في المنطقة والعالم مصالحها وأطماعها الخاصة، والتي قد تتقاطع أو تتعارض مع مصالح الشعب السوري. يضاف إلى ذلك، أن سوريا الجديدة تبدأ مسيرتها في ظل ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد والاضطراب، مما يفرض تحديات جمة على دمشق والإدارة الجديدة، من أبرزها:

أولًا: تحقيق الانسجام المجتمعي والحفاظ على الأمن القومي

لقد تكللت الثورة السورية بالنجاح في الوصول إلى دمشق والسيطرة على كافة الأراضي السورية دون إراقة دماء المدنيين الأبرياء في المدن والقرى. كما تمكنت من تحقيق التوازن بين تسوية أوضاع منتسبي الأجهزة الأمنية والجيش، وإخماد نشاط المتطرفين حتى الآن. ومع ذلك، فإن الحفاظ على الأمن يتطلب جهودًا أمنية واستخباراتية مستمرة ومكثفة، بهدف إفشال أية محاولات لزعزعة الاستقرار الداخلي، والتي قد تظهر في المستقبل بدعم خارجي، ولأهداف سياسية تتعارض مع مصالح دمشق.

وفي هذا السياق، لا تزال سوريا بحاجة إلى دمج قوات "قسد" الكردية في الجيش الوطني الجديد. ومن الخطورة بمكان أن تصر قوات سوريا الديمقراطية (الكردية) على رفض الاندماج، والتمسك باستقلالية قرارها وقواتها، والسيطرة على الموارد النفطية والمناطق الزراعية الواقعة شرق نهر الفرات، بالاعتماد على الدعم الأمريكي. فاستمرار هذا الوضع قد يخلق أزمة سياسية وأمنية واقتصادية لدمشق، وأزمة سياسية وأمنية لأنقرة التي تسعى جاهدة لدمج قوات "قسد" في الجيش السوري الجديد، لتجنب أي صدام عسكري محتمل. وقد حذر وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في تصريح له في 10 يناير/كانون الثاني، من أن تركيا ستتحرك عسكريًا ضد المقاتلين الأكراد إذا لزم الأمر، مؤكدًا أن هذا الأمر سيتم بحثه مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي تصريح سابق له في 7 يناير/كانون الثاني، صرح هاكان فيدان بأن "الولايات المتحدة متواجدة في شمال سوريا لأسباب معينة، لكن 80% من هذه الأسباب لم تعد قائمة". ومن أجل بناء علاقات أخوية راسخة مع المكون السوري الكردي، من الضروري التوصل إلى تفاهم داخلي بدون تدخلات أو حسابات خارجية.

فهل ستنجح المساعي الداخلية في التوصل إلى تفاهم مع قوات "قسد"؟ وهل ستنجح المفاوضات التركية الأمريكية في ضم هذه القوات إلى الجيش السوري، وتجنب البلاد ويلات قتال متجدد، لكي تسير عجلة الاستقرار والبناء نحو الأمام؟

وفي السياق ذاته، يحتاج المجتمع السوري أيضًا إلى استعادة الثقة بين مختلف أطيافه؛ بين من ناصر الثورة ومن دافع عن النظام السابق، بين من تضرر من جرائم النظام وفقد منزله وهُجّر (12 مليون لاجئ ونازح)، ومن لم يمسه الضرر ممن أيدوا النظام. كما أن المجتمع المكلوم والمتضرر بحاجة ماسة إلى تحقيق العدالة والقصاص من رموز ومسؤولي النظام السابق المسؤولين عن الفساد والجرائم التي طالت ملايين السوريين.

فالمجتمع السوري يتوق إلى دولة قوية وعادلة، ويتطلع إلى سوريا كوطن حر وموحد للجميع، بغض النظر عن الدين أو المذهب أو العرق. وهذا يتطلب حكمة وروية، وحرية وعدالة، ومنظومة قيمية وثقافية متكاملة تساهم فيها المدارس والجامعات، ووسائل الإعلام، والمساجد والكنائس، والجمعيات والمؤسسات الأهلية.

ثانيًا: النهوض بالوضع الاقتصادي المتدهور

تعاني سوريا اليوم من اقتصاد منهار، وبنك مركزي لا يملك سوى احتياطي من الذهب والعملات الأجنبية لا يتجاوز 2.5 مليار دولار.

يكفي أن نتخيل أن المواطن السوري يعيش على راتب شهري لا يتجاوز 20 دولارًا، ويحظى بساعتين فقط من الكهرباء يوميًا، في ظل ارتفاع نسبة الفقر إلى حوالي 90%. ووفقًا لإحصائيات أولية، فإن عدد المنازل التي دمرت أو تضررت بشكل جزئي نتيجة القصف بلغ حوالي 178 ألف منزل، بالإضافة إلى الدمار الهائل الذي لحق بالمدارس والمستشفيات والطرق والمناطق الصناعية.

هذا الوضع لا يخلق تحديًا اقتصاديًا وإداريًا فحسب، بل يفرض أيضًا تحديًا سياسيًا على مستويين:

  • المستوى الأول يتعلق بالمواطن السوري الذي سيبدأ خلال الأشهر القادمة في التساؤل عن مدى التحسن في القطاعات الاقتصادية والخدمية، وهو ما سيشكل تحديًا لمصداقية وكفاءة الحكم الجديد في دمشق بقيادة أحمد الشرع.
  • المستوى الثاني، وهو الأهم والأصعب، يتمثل في أن بعض الدول الغنية والنافذة إقليميًا ودوليًا (التي لا تدعم فكر الثورة والحرية)، قد تحاول استغلال الأزمة الاقتصادية وحاجة سوريا إلى المساعدة والدعم لتطويعها وتوجيهها نحو البيئة السياسية التي تدور في فلك الولايات المتحدة الأمريكية، الطرف المهيمن في المنطقة، وذلك بهدف الحصول على الدعم والاعتراف. وإلا فإن تلك الدول قد تلجأ إلى استغلال الأزمة الاقتصادية المتفاقمة لإثارة بعض الفئات من الشعب، واستخدام المتضررين من سقوط النظام السابق لمواجهة الإدارة السورية الجديدة، والخروج عليها بحجة المطالبة بتحسينات اقتصادية عاجلة، وهو الأمر الذي يدرك الجميع أنه يحتاج إلى سنوات من العمل الدؤوب والتضامن الدولي والإقليمي.

وهذا الأمر قد يتطلب من الإدارة السورية الجديدة تعميق الشراكة مع تركيا وقطر، ومد جسور التعاون مع الدول العربية الشقيقة والصديقة وطمأنتها، وتحقيق التوازن في العلاقات بين الشرق والغرب الذي ما زال يمارس الاستعلاء والوصاية. وتعكس زيارة وزير خارجية فرنسا، جان نويل بارو، ووزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك، إلى دمشق في 3 يناير/كانون الثاني، نزعة الاستعمار الثقافي والاقتصادي المليئة بالشروط والإملاءات.

ثالثًا: صون حرية الشعوب وإنجاح النموذج السوري

يكمن التحدي الأكبر في انعكاسات النجاح في بناء نموذج قائم على حرية الشعوب وإرادتها.

لابد من الإشارة إلى أن النجاح قد يجلب الحسد والعداوة من أولئك الذين فشلوا في حماية الحريات الشخصية والسياسية، وفي إدارة اقتصاداتهم، وفي تسيير مؤسسات الدولة.

ليس هذا فحسب، بل إن نجاح سوريا الجديدة في إدارة "إسلامية سُنيّة" قادرة على استيعاب الاختلافات الفكرية والمذهبية والعرقية، وإدارة دولة بحجم سوريا وموقعها الجيوسياسي بكفاءة بعد سنوات عجاف، قد لا يروق لبعض الأنظمة التي ترى في هذا النجاح تهديدًا وجوديًا لها، لأنها تخشى من أن يتم الاحتذاء بالنموذج السوري الناجح، مما سيعزز حضور التيارات الإسلامية في المشهد السياسي. وهو الأمر الذي شكل سابقًا – وما زال – تحديًا لبعض الأنظمة خلال ما عرف بالربيع العربي.

هذا الخوف من ردة فعل بعض الأنظمة لا يقتصر على منطقة الشرق الأوسط التي تعاني من تراجع الحريات وتفشي الفقر والفساد، بل يمتد أيضًا ليشمل المنظومة الغربية التي لا تزال العديد من دولها أسيرة لثقافة الاستعمار والوصاية على العالم الثالث، ولا تتوانى عن إظهار عدائها للإسلاميين وحرية الشعوب العربية، وتضع العراقيل والشروط أمام أي نظام ناشئ لترويضه، مستخدمة في ذلك شعارات براقة لأغراض سياسية، مثل حماية الأقليات العرقية والدينية وحرية المرأة وحقوق الإنسان.

وهي ذاتها تلك الأنظمة الغربية التي تدعم إسرائيل المحتلة للأراضي السورية، وتدعم عدوانها الشرس على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة حتى التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وتدافع عن ديمقراطية إسرائيل التي تمارس العنصرية والقمع ضد الفلسطينيين منذ أكثر من 75 عامًا.

رابعًا: إسرائيل المحتلة والمحور السنّي

إسرائيل، التي تدعي التحضر، ما هي إلا دولة دينية عرقية، تمارس التطهير العرقي والإبادة الجماعية والعنصرية والكراهية ضد الفلسطينيين وغيرهم.

كيان محتل يؤمن بإسرائيل الكبرى الممتدة بين النيل والفرات حتى الحدود التركية شمالًا، وأجزاء من شمال السعودية جنوبًا.

هذا الأمر لم يعد مجرد حديث ديني حبيس المعابد أو أساطير في عقول بعض المتطرفين اليهود، بل أصبح سياسة رسمية يعلنها قادة الاحتلال الإسرائيلي علنًا، مثل وزير الاتصالات شلومو كرعي الذي صرح في 29 ديسمبر/كانون الأول من العام 2024 بأن "أبواب القدس تنير دربنا حتى نصل إلى أبواب دمشق"، وهي ذات العبارة التي نطق بها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في مقابلة تلفزيونية قبل عدة أشهر.

وفي السابع من هذا الشهر، نشر الموقع الرسمي لدولة إسرائيل على منصة إكس خريطة مزعومة لدولة إسرائيل القديمة، تضم فلسطين وأراضي أردنية ولبنانية وسورية، مع تعليق يشير إلى حلم اليهود في الأرض الموعودة.

لقد تعاملت إسرائيل المحتلة مع سقوط نظام الأسد وخروج إيران من سوريا كإنجاز تاريخي لها، ولكنها في الوقت نفسه تخشى من تبعات ثورة الشعب السوري وتحالفات سوريا الجديدة.

إن إسرائيل تخشى من الحرية للشعب السوري ولأي شعب عربي، لأنها تدرك أن مقتضيات الحرية هي الدفاع عن النفس والسيادة. كما تخشى من طبيعة النظام السوري الآخذ في التشكّل بخلفية إسلامية، وتعتبره خطرًا عليها ولو على المدى الطويل، لأن فلسطين والقدس والمسجد الأقصى هي عقيدة راسخة عند المسلمين، وهذا يتناقض مع المشروع الصهيوني الاستعماري القائم على احتلال فلسطين وتهويد القدس والأقصى، ناهيك عن موقف سوريا الثابت من أراضيها المحتلة.

بالإضافة إلى ذلك، ترى إسرائيل المحتلة في التقارب السوري التركي باعثًا للقلق، على الرغم من العلاقات التاريخية بين أنقرة وتل أبيب منذ العام 1949. ولكنها، من منظور سياسي تاريخي، ترى في حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس أردوغان، الذي تسلم السلطة منذ العام 2002، الوريث الشرعي للدولة العثمانية التي عارضت هجرة اليهود إلى فلسطين وقيام كيان لهم في عهد السلطان عبدالحميد.

هذا القلق دفع وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس إلى عقد اجتماع أمني استثنائي (8 يناير/كانون الثاني 2025) بحضور وزير الخارجية غدعون ساعر ورئيس الأركان هرتسي هاليفي ومسؤولين رفيعي المستوى من وزارتي الخارجية والدفاع، لمناقشة توسع النفوذ التركي. وفي الوقت نفسه، أصدر مركز موشيه ديّان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في جامعة تل أبيب دراسة تحذر من النفوذ التركي، وتدعو إلى وضع خطة لمواجهة طموحات تركيا "العثمانية" التي تسعى لتغيير موازين القوى في المنطقة، مما يعرض مصالح إسرائيل للخطر.

وبناءً على ذلك، فإن سوريا الجديدة تواجه أطماع إسرائيل في الأراضي السورية، والتي تستند إلى منظور ديني يتغذى على أفكار الأرض الموعودة، بالإضافة إلى عداء إسرائيل لحرية الشعوب العربية، وقلقها من التقارب السوري التركي بخلفية إسلامية تتعارض، في نظرها، مع المشروع الصهيوني الاحتلالي.

إسرائيل لا تثق بأي تطمينات من أي طرف كان، فعلى الرغم من علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية التاريخية مع أنقرة، إلا أنها سرعان ما تنتابها حالة من القلق والغضب تجاه أي رد فعل تركي مبرر يقف إلى جانب الفلسطينيين إعلاميًا وإنسانيًا.

ومما يزيد من حجم التحدي الذي يواجه سوريا الجديدة أنها كيان وليد يقع في جوار وحش كاسر اسمه إسرائيل، يتغذى على استغلال ضعف الآخرين ويكره الغرباء، ويؤمن بنظرية البقاء للأقوى.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة